
“النادر، الطمينة، الجباح، الفراد، الخبوز والدغاس، تفراك الفول”..وأشياء أخرى عن الفلاحة قديما..
الدكتور أحسن ثليلاني يأخذكم في رحلة نحو الماضي الجميل
أنا من عائلة فلاحية، أبي فلاح ، و أمي فلاحة، أسرتنا الكبرى تدعى (لعمارى) أو ( أولاد بلعمري) فلاحين أبا عن جد، يقال أن أصل قبيلتنا من بني ثليلان نواحي القرارم، و هي من أغنى و أقوى قبائل الحضرة، و أن جدنا كان هو الحاكم للمنطقة كلها و التي تمتد من قسنطينة إلى جيجل ، حيث تروي كتب التاريخ أن الاحتلال الفرنسي قام بالسطو على ممتلكات قبيلتنا و انتزع منها كل الأراضي بالقوة و المقدرة بأكثر من سبعة آلاف هكتار حوالي سنة 1870 و ذلك بموجب قانون نزع الملكية الذي أصدرته السلطات الاستعمارية ، فتفرقت القبيلة في بقاع الأرض و تشتت في الشرق و الغرب ، أما أحد أبنائه و هو جدنا نحن (العمري ثليلاني) فقد التجأ إلى منطقة العلمة بأعالي (السمندو- زيغود يوسف حاليا) و منها ارتحل أبناؤه إلى سيدي مزغيش حيث اشتروا مئات الأراضي الخصبة في السهل الممتد بين سيدي مزغيش و بني والبان ولاية سكيكدة ، و قد تسمت هذه المنطقة باسم ( لعمارى، أو دوار أولاد بلعمري) كما سميت (عين النصارى) أيضا، لأن بها عينا أنشأتها فرنسا و زودتها بمياه قادمة من جبل سيدي إدريس ، و يسمونها أيضا(أم الشوك) ، و في مشتة العمارى هذه ولدت و نشأت في بيئة فلاحية عامرة بالزراعة و تربية المواشي و النحل أيضا.
أذكر أنني كنت طفلا مشاغبا شقيا يرتع و يلعب بحرية تامة في باديتنا و لا يبالي بأحد لأن كل سكان المنطقة إذا استثنينا الرعاة و المزارعين هم من أبناء ( العمارى) كما يسموننا ، و أذكر أن المنطقة تزدهي عادة بأبهى صور الجمال خاصة خلال فصلي الربيع و الشتاء ، ففي الربيع تمتد أمامك الخضرة و كأنك في جنة الخلد حتى أن حقول القمح و الشعير كانت تغطينا تماما و نحن صغار نتيه في المروج و الحقول بحثا عن النباتات الصالحة للأكل مثل ( الحرشة و التيلفاف و الزرنيج و القرنينة) و ما أكثر ما كنا نرافق الأبقار الحلوب نطرف بها في(الرسم) أي المناطق الحدودية بين القطع الأرضية، و التي عادة ما تكون مملوء بالحشائش التي تشتهيها الأبقار فتدر حليبها، أذكر أيضا أنه كانت لدينا حدائق جنب منازلنا مملوءة بالخرشف و القرنون و البصل و الثوم و البطاطا ، حتى إذا ما حل الربيع رأيت تلك الحدائق و قد ارتفع (قرنونها ) و كأنها رؤوس الشياطين تطاول عنان السماء، هذا دون أن ننسى حقول الفول التي عادة ما تكون قريبة من الديار حتى يسهل على النسوة ( التفراك)، و على الرغم من لذة فولنا المفور ، إلا أنني كنت أشتهيه مخلوطا مع الزبدة و البسيسة ، نسميها ( الفول بالطمين) . الحقيقة لقد كان لكل عائلة منا حوش كبير من الأغنام و الأبقار، لذلك تمتلأ أواني الفخار( الزيار و البرم) بالزبدة و الدهان في فصل الربيع ، أما اللبن فحدث و لا حرج ، حيث كنت ترى الناس يأتون لطلبه من كل مكان حتى من قرية سيدي مزغيش البعيدة عنا بحوالي 06 كلم ، فكنت ترى طالبي لبن العمارى يمشون باتجاهنا فرادى و جماعات ، و في يد كل واحد منهم سطلته، و أذكر أننا كنا نعطيه للناس مجانا و لا نبيعه أبدا حيث كنا نسمع الكبار يرددون أمامنا أن بيع اللبن (حرام)، و قد جرب أخي مرة أن باع سطلة لبن لأحدهم ، و صادف أن ماتت لنا بقرة بعدها بأيام ، فغضب أبي و أقسم علينا ألا نبيع قطرة لبن واحدة بعد ذلك. و من أجمل مظاهر الربيع عندنا ( الضحى) و هي عادة شعبية توارثناها أبا عن جد، حيث عندما تشتد حرارة الربيع و يصبح اليوم طويلا ، يقوم كل أصحاب المواشي بعملية (جز) الأغنام أي حلق صوفها في جو احتفالي بهيج ترافقه أكلة الطمين التي نأكلها و نطعم منها الكبش الفحل و الذي عادة ما يكون هو أول من يتم جز صوفه، ثم يصبح الخروج بالمواشي للمراعي عند الصباح الباكر، و العودة بها إلى المنازل قبل الظهر لأخذ قيلولة ثم الذهاب بها ثانية إلى المراعي قبيل العصر فلا تعود إلا عند المساء مع مغيب الشمس، هذا الانتقال في توقيت رعي المواشي هو المعني بتعبير (الضحى) ، و الملاحظ أنه في اليوم الأول من هذا الضحى تقوم النسوة بإعداد الكثير الكثير من أكلة البراج و الطمين و طهي القمح و الخبوز و الدغاس في جو احتفالي جميل ترافقه الألعاب الشعبية و منها لعبة (القشرة) و هي لعبة شعبية تشبه البيزبول نلعبها معا رجالا و نساء كبار و صغارا في الهواء الطلق غير بعيد عن الديار في جو من الفرحة و البهجة بقدوم فصل الربيع، فنخرج جميعا إلى مساحة مستوية خضراء(الملعب) نحدد حدودها من اليمين و الشمال ، و نقتسم إلى فريقين لكل منهما قائد قوي من الرجال، ثم نضع قشرة الفلين في الوسط و بواسطة (الأقواس) و هي قضبان مثل العصي المقلوبة و التي نحملها بأيدينا يحاول كل فريق تسجيل الهدف عن طريق إيصال قشرة الفلين إلى حدود الفريق المنافس في جو تنافسي احتفالي تخالطه أصوات الرجال ( شيمك، شيمك) أي (التزم يمينك، يمينك) بينما تتصايح النسوة في خيلاء ليزداد الصراع وطيسا، حتى إذا ما تعبنا نجلس جماعات جماعات لنأكل البراج في سعادة غامرة، ثم سرعان ما نعود إلى تلك اللعبة الجميلة.
أما إذا حل فصل الصيف و هو فصل الحصاد و الدرس، فإن المنطقة كلها تكتسي بالحيوية و النشاط، و أول ما يبدأ به الفلاحون عادة هو إخراج آلات الحصاد و صيانتها و إعدادها لتنطلق في الحقول ، و كذلك إعداد ( الطرحة و النادر) حيث تجري عملية درس (الشواط) وذلك بالنسبة للمناطق التي يصعب على آلة الحصاد الوصول إليها كالمرتفعات و الوهاد، و قد كنا و نحن صغار نحب اللعب في( النادر) بينما الفلاحون يقومون بالدرس باستعمال الأحصنة أو الجرار الذي يسحب خلفه (الرول) فنقوم نحن بتسلق أكياس القمح و الشعير، فإذا منعنا من ذلك نتسلق أكوام التبن و نلعب الغميضة أو لعبة ( ارفع يديك haut les mains) ( . و الجميل في المنظر أن (النادر) كله يصبح قبلة للجميع طيلة فصل الصيف، ففيه تتم عملية بيع كل أنواع المحصول لمن يرغب في الشراء و خاصة الشاوية كما كنا نسميهم الذين يحجون إلينا بحثا عن القمح و الشعير و الخرطال و القرفالة و الحمص و الفول ، و كنت و أنا صغير أسمعهم يشيدون بنوعية قمحنا فهذا يقول (البليوني) و ذاك يتحدث عن قمح (الهذبة) بينما نحن ننظر إليهم معجبين بلهجتهم الجميلة التي تختلف عن لهجتنا.
أذكر أن والدي -رحمه الله- كان قويا جدا و يتمتع بصحة جيدة فهو طويل القامة واسع الصدر مفتول العضلات، و قد كان كثيرا ما يمازح الفلاحين فيراهنهم على رفع القنطار من الأرض ثم يرفعه وحده بسهولة، و إلى جانب نشاطه الفلاحي الخاص، كان والدي يعمل مزارعا في تعاضدية قدماء المجاهدين، و قد كانت هذه التعاضدية تستثمر مساحات زراعية واسعة بالقرب منا، و أذكر أن والدي كان كثيرا ما يوقف الجرار الذي يحمل فلاحي التعاضدية أمام بيتنا ليطعمهم كسرتنا و لبننا و زبدتنا و طميننا و عسلنا و قهوتنا أيضا، و كان يغدو فرحا مغتبطا و هم يأكلون و يشربون فقد كان كريما إلى أقصى درجات الكرم و ذلك رغم بساطة إمكانياته، و أشهد أنني في حياتي لم أسمع بسيرة رجل يطعم العابرين أمام داره غذاء أطفاله ماعدا والدي (الحاج الحسين ثليلاني) رحمه الله.
و على ذكر العسل أذكر أنه كانت لدينا الكثير من (الجباح) أي بيوت النحل ، تضعها أمي- رحمها الله- خلف الدار حيث توجد الحديقة الخلفية و نباتات التين الشوكي(الهندي) و ما أكثره في دوارنا حتى أن كل دار تجدها محاطة بهذا (الهندي) من كل جانب و كأنه سور مرتفع ، فترى النحل تسرح فيه و تتغذى على أزهاره كما تجدها تسرح في الوديان و الحقول المحيطة حتى إذا ما حل موسم إخراج الشهد و اعتصار العسل، تخرج والدتي إليها فتحمل إلينا ما لذ و طاب من العسل المصفى و الشهد الشهي و كانت تخبئه في أواني فخارية كثيرة ، فتطعم الجيران و تهدي للأقارب و تبيع بعضه و الباقي تحتفظ به لنا حيث كانت كثيرا ما تطعمنا أكلة ( لغرايف و لفتات بالعسل) ، و قد حدث أن زرت أخوالي من عائلة (إبراهيم بوناب ) في بني والبان فوجدتهم يقيمون أعراسهم ( بأكلة الفتات بالعسل) تصور عرسا كاملا بما فيه من مئات المدعوين يتعشون (الفتات بالعسل) هذا للتدليل على ما كان موجودا من خيرات.
لقد كانت باديتنا من أهم الأماكن الفلاحية في المنطقة كلها حتى أن مجاهدي ثورة التحرير اتخذوها مركزا استراتيجيا لهم ، منها يأكلون و عبرها يمرون إلى مختلف الجهات، حتى أنه قيل لنا إن طائرة حربية فرنسية قد سقطت قريبا من ديارنا، و قد لعبت شخصيا بالكثير من قطعها الحديدية التي وجدناها مرمية هنا و هناك.
لقد كنت مسحورا بمشهدين لم أنسهما إلى اليوم: الأول هو منظر المواشي خاصة الأغنام و الماعز و هي بالمئات تشق طريقها صفوفا صفوفا منتظمة باتجاه العين لتشرب الماء من الحوض الكبير الموصول بالحنفية، فكنت ترى كل عائلة و كل جهة تسقي مواشيها حسب دورها بطريقة منتظمة حتى أنك أحيانا لا تميز من القطيع إلا مقدمته بينما الباقي يلفه الغبار المتصاعد و كأنه إعصار أو عاصفة ، أما المشهد الثاني فهو فرجة الطائرات و هي تعبر أجواءنا ، فكنت أسمع أزيزها و أشاهدها يوميا تشق سماء باديتنا حيث السهول الخضراء الجميلة تخترقها الوديان المتعرجة ، و تزينها أشجار الزيتون و أكاليل الضرو و الريحان و الدفلى .
كانت الطائرات في ذلك الزمن الطفولي الجميل – حوالي السبعينات من القرن الماضي – تعبر مجالنا الجوي قادمة أو رائحة بين شاطئ القل و مطار عين الباي بقسنطينة ، حيث كان مسارها يمر عبر مرابعنا ، فكنا نراها و هي تعلو و تنخفض فنطاردها و نحن نتصايح مرددين : ” يا الطيارة يلعن بوك جيبلي بابا من المروك ” ، و مع أن أغلب مهاجرينا كانوا في فرنسا إلا أننا – ربما- لمقتضيات موسيقية كنا نستعمل كلمة ” المروك ” لينسجم الإيقاع مع كلمة ” بوك “و في وعينا أنها بلاد بعيدة و كفى ، و لم نكن وقتها نعرف أن الأمر يتعلق بالمغرب الشقيق .و الحقيقة أن الدنيا عندنا هي دنيانا فقط ، أي هي ما نراه في مد بصرنا انطلاقا من مساكننا التي شيدها الأجداد فوق هضبة بين واديين يحصنان قبلتها و ظهرها في شكل خطين متوازيين يمتدان بعيدا إلى ما بعد الحنفية الوحيدة في الجهة كلها ، و التي أقامها الاستعمار الفرنسي لتزويد المنطقة بالماء الشروب .
كانت دارنا بيتا واسعا من الحجر و الطين ، و سقفه من القرميد الأحمر و حوله بعض الأكواخ القصديرية التي جعل بعضها لتخزين أكياس القمح و الشعير و علف المواشي ، و بعضها الآخر للمواشي و الدجاج ، فقد كانت حضيرتنا زاخرة بألوان من الأبقار و الأغنام و الماعز و الدجاج و القطط و الكلاب و الحمير ، حتى أننا كنا نختلط بهم و يختلطوا بنا فلا نفرق بين الطفل و التيس.
إن ما يحفظ من حسن تدبير أجدادنا رحمهم الله أنهم اتفقوا على تخصيص مساحتين كبيرتين من الأرض الشيوع لرعي مواشي سكان البادية دون تمييز بين هذا أو ذاك ، حيث كنا نكني
الأرض القبلية ” تحت الديار ” و هي تنتهي عند ضفة الوادي القبلي ، و نكني الأرض الخلفية ” وراء الديار ” و هي تنتهي عند ضفة وادي بني والبان كما كنا نسميه .
كنت مولعا بمراقبة الطائرات ، فألاحقها أحيانا و أنا أحث الخطى على تراب الطريق مرفوع الرأس صوب عنان السماء حتى أتهاوى على الأرض ، و أحيانا أحاول المسك بظلها المرسوم على الأديم ، و مرات كنت أستلقي فوق الحشائش على ظهري بمجرد مشاهدتها قادمة من بعيد ، حتى يحلو لي المنظر و أستطيع رؤية كل أجزاء الطائرة : مقدمتها و جناحيها و ما أكثر ما كنت أتصور ما بداخلها من مسافرين و هم جالسون في هدوء بأشكالهم الجميلة و ملابسهم النظيفة الفاخرة ، و كم حدثتني نفسي بأن هذه الطائرة أو تلك يمكن أن تسقط علينا نحن الأطفال بعض الحلوى و الهدايا . و رغم أن رجائي كان يخيب في كل مرة إلا أن ولعي بمشاهدة الطائرات كان ينمو و يكبر مرة بعد مرة حتى أنني صرت أستطيع ضبط مواقيتها و أخمن مرورها فأستعد للقائها قبل ظهورها من بعيد ، حتى أنني عندما دخلت المدرسة ، تعلمت- فيما تعلمت- صناعة الطائرات الورقية ، و التي كنت كثيرا ما أطلقها تحلق في ساحة المدرسة و أحيانا داخل القسم في غفلة من المعلم .
لم أكن أعرف من أين تأتي تلك الطائرات و لا إلى أين تذهب ، و قد سألت كبار الدوار يوما فقيل لي أنها تأتي من بلاد بعيدة اسمها فرنسا ، كما قيل لي أنها تحط في مكان قريب خلف جبل عياطة اسمه مطار عين الباي ، و كم أتعبني خيالي الصغير في رسم صورة عن مطار عين الباي هذا ، فتصورته رجلا عملاقا باسطا برنوسه على الأرض و الطائرات تحط أمامه و هو يحضنها و يمسح عليها بيديه ، و تصورته طريقا ذهبيا داخل جبل عال ، و تصورته قصرا ذهبيا ، و ربما يكون سماءا .
لقد أحببت عين الباي حبا جما و لم أكن أعلم يوما أنني عندما أكبر و أصبح طالبا في جامعة قسنطينة سأقيم بحي زواغي سليمان قرب مطار عين الباي حيث تمتعت كثيرا بمشاهدة الطائرات عن قرب و هي تطير و تحط في مشهد ساحر جذاب ، و لم أكن أعلم أيضا أن وقتا كبيرا من عمري سأقضيه في مطار عين الباي مسافرا أو عائدا ، و إنني أذكر جيدا أول مرة ركبت فيها الطائرة ، و قد حدث ذلك شهر أوت 1984 ، حيث سافرت في عطلة صيفية إلى فرنسا على متن طائرة من نوع بوينغ تابعة لشركة الخطوط الجوية الفرنسية ، و أذكر جيدا اندفاعي السريع نحو الطائرة لأنني كنت أظن أن مقاعدها محدودة ، لا تكفي المسافرين جميعهم .
أحب باديتنا حبا جما ، فقد دأبت على زيارتها باستمرار و خاصة لتفقد أحوال والدتي التي رفضت رفضا قاطعا الإقامة معي أو مع أولادها في الجزائر العاصمة أو سيدي مزغيش، و تمسكت بالأرض التي أنبتتها، و أحيانا كانت عندما تضطرها الظروف للإقامة في المدينة بضعة أيام، فإنها سرعان ما تعبر عن ضجرها، و رغبتها في العودة للبادية حتى أنها تحدثك عن دجاجاتها و سردوكها وكأنهم أولادها أيضا، أما أنا فقد تركت في باديتنا طفولتي و الكثير من ذكرياتي الجميلة حيث كنت أرتع و ألعب و أجري و أقفز و أطالع الكتب الكثيرة تحت أشجار الزيتون حيث الظل و الهناء و السكينة، فمن يعطيني يوما من طفولتي و أمنحه عمري الكامل؟ لأنه مهما كبرنا تظل الطفولة أحلى القصائد.
الله يبارك، تقريبا نفس تفاصيل الطفولة، لكن بجوارك ببلدية صالح بوالشعور