
“الطيور المهاجرة” تحط الرّحال ببحيرة فزازة في عنابة ومصالح الغابات تتجند للإحصاء !!
حطت الطّيور القادمة من الشمال في رحلة الشتاء لتحطّ منهكةً ببحيرة فزارة في عنابة حيث تتخلّص من آثار البرد والجوع وتستجمع قواها لتبدأ رحلة أخرى في الاتجاه المعاكس، غير عابئة بالحدود والتأشيرات وجوازات السفر وكلّ الحواجز التي وضعها الإنسان لأخيه الإنسان بموجب تقاسمٍ مشؤومٍ وجائرٍ لأمّنا الأرض.
وبالطبّع فإن الإنسان لا يملك سوى أن يحسد الطيور التي تعبر الأجواء وتتخطى البحار، المحيطات والجبال بين قارات وبلدان المعمورة، وحين تصل إلى حيث الدفء والطعام والنقاء، تقول: هذا وطني!
انطلاق حملة إحصاء الطيور المهاجرة في جانفي
كانت خرجتنا لمعايشة حياة الطيور المهاجرة القادمة من أوروبا والدول الاسكندنافية، متزامنة مع انطلاق الإحصاء العالمي يوم17 جانفي، في تنسيق بين جميع بلدان العالم التي يمر بها مسار الطيور المهاجرة المائية، ليكون في نفس التواريخ.
بعد إحصاء الطيور المائية في جانفي، يأتي الدور على إحصاء الطيور العشاشة في شهر ماي، كالبط ذي العنق الأخضر، السوشي، و الزواي، وفي شهر جوان يتم إحصاء طائر اللقلق.
يبدأ التحضير لإحصاء الطيور المهاجرة باستدعاء جميع إطارات محافظة الغابات المختصين في متابعة الطيور المهاجرة بمساعدة بعض الأعوان، على مستوى ولايات عنابة، الطارف التي تتربع على مساحة شاسعة من البحيرات على غرار (طونقة، بيرة، الزرقاء، الطيور)، وقالمة وسكيكدة لاحتوائهما على سدود تحط فيها الطيور المهاجرة في مسار رحلتها قبل الوصول إلى البحيرات. بعد اختيار يوم الإحصاء يلتقي إطارات وأعوان الغابات على الساعة الثامنة صباحا بالجهة الشرقية للبحيرة ببرحال، يتم تقسيم فريق العمل إلى أفواج، بعد إجراء مسح سريع عبر المنظار لتحديد أنواع الطيور الموجودة في البحيرة، يكلف كل فوج بإحصاء أنواع معينة.
وتنطلق عملية الإحصاء بتمركز هذه الفرق على مستوى 4 محطات تشكل الزوايا الدائرية للبحيرة، لرصد الطيور من جميع الجهات، وتكليف كل فريق بإحصاء الطيور القريبة منه، كون بحيرة فزارة شاسعة تتربع على مساحة 13 ألف هكتار، منها 600 هكتار يغمرها منسوب المياه، تتحرك الطيور حسب منسوب المياه .
وجهتنا في الإحصاء كانت مع فريق يقوده رئيس مصلحة حماية الحيوانات والنباتات بالمحافظة الولائية للغابات بعنابة فاروق تركي، تمركزنا بمنطقة الحاسوك بمحيط المدينة الجديدة الكاليتوسة ببرحال، وفي حدود الساعة العاشرة بدأت الطيور المهاجرة تظهر بقوة على شكل مجموعات، رصدنا عبر المنظار 11 نوعا تقريبا يسبح فوق الماء، وكلما اقتربنا منه يغير وجهته، لا تحبذ الطيور الإزعاج، أحصى الفريق حوالي 443 طائرا في التجمع المائي، ومن بين أكثر الأنواع التي رصدنها « كنال سوشي، فولك، أساش، والنحام الوردي».
وكان فريق الإحصاء يقوم بالعد عن طريق تحديد رقعة عبر المنظار والحساب بـ 10 رؤوس، وعند تحريك المنظار تعاد نفس العملية بوضع العدسة على رقعة أخرى، ويضغط على زرّ العداد للتأكد من القيام بالعملية التي تستمرّ إلى غاية إحصاء جميع الطّيور.
يتسلم كل فوج جهاز تلسكوب (المنظار المكبر)، وعداد الحساب، وكذا دليل أنواع الطيور، لتحديد الصنف في حال تشابه الألوان والمواصفات.
كان رصد الطيور صعباً بين الحشائش المرتفعة وكذا القصب خاصة أثناء هبوب الرياح، مما يتطلب حسب فرق الإحصاء توفير وسائل أنجع للإحصاء كاستخدام طائرة «الدرون» التي تحدّد بشكل دقيق أعداد الطيور، اعتمادا على تصوير الفيديو، وهذه الطريقة ممنوعة حاليا في الجزائر، في انتظار تقنين العمل بها.
وأثناء عملية الإحصاء يمنع استخدام زوارق داخل البحيرة، لتفادي إزعاج الطيور وإحصائها وهي في حالة هدوء، وتسهيل عملية العد.
كل سنة تحصى مصالح الغابات ما بين 20 إلى 26 نوعا من الطيور المهاجرة التي تحط في بحيرة فزارة والمحميات الطبيعية المجاورة.
من هنا تبدأ رحلة الطيور المهاجرة
تبدأ هجرة الطيور المائية في رحلتها شهر نوفمبر إلى غاية ديسمبر، قادمة إلى الجزائر من الدول الاسكندنافية و الواقعة بواجهة البحر الأبيض المتوسط الشمالية، تقطع مسافة طويلة للوصول، بعد أن غطى الجليد والثلج البحيرات التي تعيش فيها، لتصل منهكة وضعيفة الجسم لتحط بالبحيرات الواقعة بالجهة الشرقية، أين يتوفر الدفء والغذاء، تعود الطيور لاكتساب قوتها من جديد بعد شهر ونصف إلى شهرين من الراحة، لتحضر نفسها من جديد للهجرة إلى الشّمال شهري فيفري ومارس، مع الارتفاع المحسوس في درجة الحرارة هناك وذوبان الجليد، لتبني أعشاشها و تتكاثر في بيئتها الطبيعية.
ورصدت مصالح الغابات من خلال الأبحاث التي أجرتها بالتنسيق مع باحثين من جامعة أم البواقي، بعد وضع خاتم في رجل النحام الوردي، هجرة هذا الطائر من الجزائر إلى أوروبا حيث يتمّ العثور عليه في جنوب فرنسا وإسبانيا.
الطيور النادرة تفضّل بحيرة بوسدرة
يحط طائر « اريسماسير ذو الرأس الأبيض» في بحيرة بوسدرة في بلدية البوني، يتواجد بأعداد كبيرة، ويفضّل هذه البحيرة الصغيرة على بحيرة فزارة لتوفر خصائص يجري البحث عنها، حيث تتخذها مصالح الغابات « موقع مدرسة» للتكوين وحتى اصطحاب تلاميذ المدارس، لمشاهدة الطيور المهاجرة عن قرب. ومن بين الطيور النادرة أيضا « النحام الوردي، نروكا، الزواي، السوشي».
إجراء الإحصاء لحماية الطيور النادرة من الانقراض
يجري الإحصاء العالمي للطيور في توقيت واحد، عبر كامل الكرة الأرضية، لتحديد أعداد النادرة منها، إذا كانت في طريقها للزيادة أو النقصان، وفي حال تراجع أعدادها، تتم دراسة الأسباب، وإخضاعها للفحص، والبحث في إمكانية إصابتها بأمراض، خاصة مع ارتفاع معدلات التلوث البيئي عبر العام. وتشير مصالح الغابات اعتمادا على الإحصائيات السنوية إلى تسجيل تراجع في أعداد الطيور المهاجرة في السنوات الأخيرة، حيث تم إحصاء على مستوى بحيرة فزارة لوحدها في جانفي 2019 ما يقارب 27 ألف طير مهاجر، وفي 2020 أحصي 15 ألف طير مهاجر، و من بين أسباب تراجع أعدادها انخفاض منسوب المياه، كما لوحظ تراجع أعداد طائر الإوز الرمادي بشكل كبير، حيث وصل عدده في 2004 إلى 8400 طائر، فيما تم إحصاء في 2019 نحو 320 طائرا من هذا الصنف.
لماذا تفضل الطيور المهاجرة البحيرات على البحر والسدود ؟
يُرجع الباحثون في مجال الطيور، سبب تفضيل الطيور المهاجرة المائية، البحيرات على باقي المسطحات المائية، لتوفر ظروف العيش فيها، إذ يساعد مستوى العمق الذي يتراوح ما بين 1 و 2.5 متر، الطيور للحصول على طعامها بسهولة، عن طريق صيد الديدان والكائنات التي تعيش في الطين والأوحال بالبحيرات، إلى جانب الاحتماء و سهولة التكاثر و وضع البيض بعد صناعة الأعشاش من الحشائش الموجودة على ضفاف البحيرة. ويضيف الباحثون بأن المجال البحري يمكن أن يكون موقعا تقصده الطيور المهاجرة، في طريق رحلتها للراحة والحصول على الغذاء، لكن في حدود 6 أمتار على الشاطئ، نفس الشيء في السدود، يتم إحصاء أصناف من الطيور المهاجرة تحط في المساحات المائية الأقل عمقا و تتوفر فيها الديدان.
بحيرة فزارة في خطر
تسبب تحطم الحاجز المائي الواقع في منطقة القنطرة في منع تدفق المياه إلى البحيرة، فذهبت مياه الأمطار في مجرى الوادي، وكان المشرفون على القناة يتحكمون في كميات المياه، عند فيضان البحيرة، حيث يقومون بإغلاق القناة لتتدفّق المياه مباشرة في الوادي وصولا إلى مصب واد سيبوس ثمّ البحر، حيث يُنتظر تدخّل مديرية الموارد المائية لإصلاح القناة عن طريق رصد غلاف مالي للعملية.
و نتيجة لتراجع تدفق المياه في بحيرة فزارة، تقلصت رقعتها وهو أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى نقص الطيور المهاجرة، وتحولها إلى البحيرات الأخرى المتواجدة في ولاية الطارف .
كما تشكل مصبات المياه القذرة خطرا على مياه البحيرة، خاصة من جهة برحال، حيث أصبحت المدينة الجديدة الكاليتوسة تصب مياهها الناجمة عن الصرف الصحي مباشرة في البحيرة، وهو الانشغال الذي رفع للجهات المختصّة، ويجري تسريع إجراءات انجاز محطة تصفية المياه القذرة بالمنطقة لاستيعاب جميع المصبات القادمة من التجمعات السكنية بما فيها المدينة الجديدة ذراع الريش، التي يعتبر تأثيرها في هذا الشأن أقلّ خطورة، باعتبار أنّ مياهها القذرة تذهب في واد العنب باتجاه بن عزوز التابعة لولاية سكيكدة.
حسن دريدح، جريدة النصر