الزراعات الكبرىمساهمات وأراءموضوع ساخن

الأمن القومي الغذائي..رهان على “ثورة خضراء” من دون امكانيات عصرية

الدكتور فوفو عمار، أستاذ محاضر بقسم العلوم الزراعية بجامعة 20أوت 1955-سكيكدة
مدير مخبر تثمين الإنتاج الزراعي
خبير في الاقتصاد الريفي، التنمية الريفية وتهيئة الإقليم
البريد الالكتروني: foufouammar@yahoo.fr

1. مقـــــــدمــــــــة
اعتمد الاقتصاد الجزائري منذ الاستقلال على قطاع المحروقات التي تمثل 98٪ وهذا ما جعل كل المؤشرات الإقتصادية والسياسات الوطنية سواء التنموية أو تلك المرتبطة بميزانية الدولة ترتكز وترتبط مباشرة بأرقام تصدير الغاز والبترول.
حيث عجزت الجزائر، منذ أكثر من نصف قرن، على إرساء اقتصاد متنوع ومذر للثروة في ظل هيمنة اقتصاد الحاويات الذي ليس هو في منأى عن الأزمات الخارجية و متطلبات السوق الدولية.
تتميز الجزائر عن بلدان حوض المتوسط بشساعة مساحتها وتنوع أنظمتها المناخية والبيئية وتعدد بنيتها الجغرافية المتميزة، وهذا ما جعل من فضائها يتميز بأربعة أنظمة مناخية من البحر المتوسط شمالا إلى المناخ الساحلي بأقصى الجنوب. تنوع المناخ ارتبط به ارتباطا منطقيا تنوع الموارد والأنظمة البيئية والمنتجات الزراعية على طول السنة. كما سمحت هذه المزايا الطبيعية بانتحال بعض المنتجات مرتين في السنة.
2. الجزائر عبارة فضاء زراعي مفتوح بمقومات و موارد فريدة من نوعها
تقدر المساحات الزراعية الإجمالية المقدرة بحوالي 42. 5مليون هكتار و التي لا تمثل إلا 18٪ و هذه نسبة ضعيفة جدا بالمقارنة مع المساحة الإجمالية كون الجنوب و السهول تكاد تكون غير مستغلة أو أخدت طابع آخر غير زراعي رغم أن نظرية الجنوب الغير صالح للزراعة التي كانت سائدة غير صحيحة كون هذا الأخير أصبح فلاحي ويساهم بقسط واسع في الإنتاج الوطني في شعب شتى. إذ تقدر المساحة الزراعية المستغلة بحوالي 8.5 مليون هكتار، أي حوالي 28 بالمائة من المساحة الزراعية الإجمالية.
ظلت الفلاحة في الجزائر تعتمد بالدرجة الأولى على الأمطار قبل أن تتطور بإدخال تكنولوجيات الزراعات المحمية وإنشاء المساحات المسقية مما شكل ثورة كبيرة في الإنتاج الفلاحي الوطني وأسهم في وفرة كبيرة للمنتجات الفصلية على مر السنة من جهة، ومن جهة أخرى، سمحت بتحقيق فائض في الإنتاج وصل الأمر إلى تصدير بعضه و انخفاض في الأسعار في الأسواق بالنسبة للمستهلك مع إلحاق بعض الأضرار المالية بالمنتج في غياب سياسة رشيدة لموازنة العملية الاقتصادية المعقدة حماية لكل الأطراف الفاعلة من مستهلك، من تجار ومنتجين.
3. المكننة و التكنولوجيا الحديثة ضرورية لمواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة
يشغل القطاع الفلاحي حوالي 22٪ من اليد العاملة الوطنية كما عرف عزوف كبير لليد العاملة خلال العشر سنوات الأخيرة لأسباب شتى أهمها النزوح الريفي الجماعي الذي شهده الريف الجزائري خلال العشرية السوداء مما جعل الفضاء الريفي يتأثر بتغيير جدري بمكوناته الأساسية والتي محركها الفرد أو الإنسان. وكذلك عدم تثمين العمل الفلاحي اليدوي الشاق والذي يبقى تحت العتبة بالمقارنة مع أعمال يدوية ومهن أخرى. هذا، بالإضافة إلى إشكالية التأمين والعمل بدوام كامل مما شكل عتبة كبيرة أمام القطاع الفلاحي ككل في ظل عجز فظيع للمكننة الحديثة وإدخال التكنولوجيا في كل العمليات الزراعية وكل الشعب التي يرتكز عليها القطاع الفلاحي الوطني.
وبالرغم من الإمكانات المسخرة، سواء المالية في شكل دعم فلاحي وقروض مختلفة، أو بشرية من خلال سياسة رشيدة للتكوين والبحث والإرشاد المسطرة، تبقى الفلاحة الجزائرية بعيدة عن الهدف المرجو تحقيقه من العصرنة و المكننة التي تعتبر عامل جوهري للنهوض بالقطاع الفلاحي المنتج والضامن الحقيقي للأمن القومي الغذائي.
إن عصرنة القطاع في الجزائر أصبح أكثر من ضرورة ليس فقط من أجل رفع مستويات الإنتاج والمردود في الهكتار، بل لمواجهة تحديات الألفية الجديدة وتخفيض تكاليف الإنتاج ومجابهة منافسة إنتاج الدول المجاورة وخاصة دول حوض المتوسط التي أصبحت تنتج منتجات فلاحية وتصدرها و تباع بسعر أقل من سعر المنتج الوطني و هذا بالضرورة راجع لانخفاض تكاليف الإنتاج في هذه الدول بسبب العصرنة التي انتهجت في كل العمليات الزراعية و الإنتاجية وفي كل الشعب.
الملاحظ بأن المكننة التي يتمتع بها القطاع حاليا لازالت محتشمة بالمقارنة مع دول الجوار ودول حوض المتوسط التي تكاد تتمتع بنفس التركيبة المناخية و نفس التنوع في الموارد وخاصة دول المغاربية التي خطت خطوات عملاقة في مجال المكننة و إدخال التكنولوجيا الدقيقة والذكية وتحديث الفلاحة بصفة عامة.
من بين آليات المكننة وتحديث الزراعة، يمكننا إعطاء أمثلة في كل العمليات الزراعية من حرث وبدر و جني للمحاصيل وصيانة المزروعات المختلفة خلال دورتها البيولوجية وكذلك عمليات استعمال المبيدات والأسمدة التي تبقى في شكل تقليدي لا يعكس تطلعات القطاع ولا يضمن لفلاحتنا استمرارية مضمونة وإنتاجية كبيرة في ظل المنافسة الشرسة التي يعيشها عالم الزراعة الذي ارتبط ارتباطا مباشرا بالتكنولوجيا الدقيقة.
من بين الأمثلة التي يمكن أن تكون مسرح للعصرنة، الآلات الفلاحية الجزائرية الصنع والذي لم يحدث عليها تغييرات ملموسة منذ سنوات السبعينات وبالرغم من نوعيتها الجيدة وقوتها تبقى ضعيفة من ناحية التجهيز والعصرنة معتمدة عن القوة الميكانيكية لا القوة التكنولوجية الذكية التي أصبحت ضرورة لا مفر منها، وكذا الشأن بالنسبة للآلات الملحقة التي اقتصرت على آلات ميكانيكية لا تلبي متطلبات الفلاحة العصرية. و اقتصرت الصناعة الفلاحية على تركيب الجرار وملحقاته أو آلات حاصدة تقليدية والباقي كله يستورد بالعملة الصعبة رغم ما هو متوفر عليه من كفاءة و خبرة لدى المصنع الجزائري في الميدان. و بالتالي أصبحت الآلات الزراعية عبارة عن مجال تستنزف من خلاله العملة الصعبة بسبب الاستيراد المكثف، حيث قدرت فاتورة التجهيزات الفلاحية لأكثر من 500 مليون دولار وكذلك فاتورة المواد الغذائية التي تجاوزت مليار دولار سنويا حسب إحصائيات وزارة المالية.
وحتى الورشات التي اعتمدت، اقتصرت على التركيب والتسويق كمثيلتها في مجال السيارات مما شكل عائقا حقيقيا أمام تطور الصناعة الميكانيكية الفلاحية في الجزائر.
فبالإضافة إلى استيراد البذور والأسمدة والمبيدات بمختلف انواعها، أثقلت فاتورة الاستيراد الاقتصاد الوطني في ظل عجز الصناعة الميكانيكية المحلية التقليدية على مسايرة الثورة التكنولوجية الذكية وبالتالي عدم القدرة على تلبية متطلبات الفلاحة الجزائرية التي عرفت تحولا كبيرا خلال العشريتين الأخيرتين.
4. ضرورة الاعتماد على المكننة و الذكاء الاصطناعي لمواكبة تحديات المرحلة
إن عصرنة قطاع الزراعة ببلدنا لا يقتصر على إدخال الآلات الفلاحية لتغطية العمليات الزراعية سواء تعلق الأمر بالإنتاج النباتي، الحيواني أو فيما يخص تقنيات تسيير الموارد المائية والوعاء العقاري الذي يبقى تطهيره رغبة ملحة للمنتجين والمستثمرين على حد سواء، بل يتعلق الأمر أيضا بإدخال الذكاء الاصطناعي في تسيير الموارد المتوفرة من مساحات مسقية وفي تسيير الغطاء الغابي وكل ما تعلق بأنظمة الإنتاج الفلاحية والبيئية التي يرتبط المحافظة عليها ارتباطا وثيقا بالزراعة.
علما بأن تحدي الألفية الجديدة في مجال الزراعة مبني أساسا على تسيير الموارد المائية التي أصبحت شحيحة سواء في شكلها السطحي أو الجوفي و خاصة منها الغير متجددة. وهذا يستدعي الاحتكام وتبني تكنولوجيات عالية في مجال الذكاء الاصطناعي وإدخال نماذج تليق بكل نظام مناخي وللشعبة الممارسة وطبيعة التربة… ومتطلبات وخصوصيات كل زراعة في الميدان.
كما أصبح إدخال الآلات الفلاحية الكبيرة (نصف مصنع)ضرورة وخاصة في المستثمرات المتوسطة والكبيرة لتحكم ناجع في تكاليف الإنتاج وتحضير سريع لخطوات التحويل الذي يجب أن يتزامن مع الأنظمة الفلاحية لتثمين أفضل الأنشطة الفلاحية ومنتجاتها. حيث أن تخفيض تكاليف الإنتاج عن طريق إدخال التكنولوجيا الحديثة والذكية، سيسمح لفلاحتنا أن تكون تنافسية في التحولات الاقتصادية للمحيط الاقتصادي والاجتماعي. ضف إلى هذا، يسمح إدخال التكنولوجيا باستعمال عقلاني وناجع للموارد الطبيعية المتوفرة كالمياه والتربة والحفاظ على مستويات الخصوبة الضرورية مما يسهم تقليل في العودة المفرطة للأسمدة العضوية والمبيدات الكيميائية.
5. المرور من فلاحة إنتاج إلى فلاحة تصدير وتثمين كمصدر للعملة الصعبة وخلق للثروة بتطوير الصناعات التحويلية والغذائية أصبح حتمية مفروضة
من أهم السياسات الناجعة و الفعالة التي تسمح بمسايرة كل الشعب الزراعية، هي إستراتيجية تطوير الصناعات التحويلية و الغذائية على المستوى الوطني وهذا ما يسمح بتثمين مباشر للمنتج الوطني و خلق للثروة ومناصب الشغل و رفع مستويات الاستهلاك للفرد الجزائري وبالتالي انتعاش الاقتصاد الوطني. في ظل ضعف أو غياب الصناعات التحويلية سيبقى المنتج الوطني يجابه تحديات كبيرة وإخطار من الناحية الاقتصادية والتسويق مما سيؤثر سلبا على الفلاحين وعلى الشعب التي لا يمكن استيعاب كل المنتجات من طرف المستهلكين وبالتالي يحدث كساد كبير، خاصة لما يتعلق الأمر بمحدودية القطاع الخاص وقدراته في التخزين ونقص الاستثمار في هذا المجال خاصة في الأقاليم الداخلية وفي الجنوب.
الملاحظ حاليا بأن أغلب منتجاتنا الفلاحية تستهلك مباشرة في شكلها الخام و بأسعار منخفضة في غياب الصناعات التحويلية التي لو تتوفر، ستلعب دور مثمن للمنتج بخلق الثروة وموازن اقتصادي تسويقي جد فعال لحماية الفلاحين وتشجيعهم على الإنتاج بقوة. فالكيلوغرام الواحد من البطاطا على سبيل المثال لا الحصر، يمكن بيعه بثلاثين دينار في شكله الخام، كما يمكن بيعه بثلاث آلاف دينار لما يحول إلى منتجات ثانوية و مشتقة أخرى. ومن خلال هذه السلسلة، سيخلق فرص عمل و يساعد على امتصاص جزء كبير من الفائض الموجود في السوق.

6. المكننة والتكنولوجيا الحديثة ضرورية في أنظمة الإنتاج الصحراوية لتخفيض تكاليف الإنتاج المرتفعة
في ظل ازدهار وتطوير غير مسبوق للزراعة الصحراوية و نجاح باهر لبعض الشعب كالخضروات و بعض الحبوب والبقول والأشجار المثمرة، كون الزراعة في المناطق الصحراوية تعتمد أساسا على المياه الجوفية والآبار الارتوازية الغير متجددة بالإضافة إلى أنها مستهلكة للطاقة الكهربائية و للأسمدة بسبب فقر التربة وقلة خصوبتها.
تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تأخذ مكان لها في المستثمرات ذات المساحة الكبيرة في الري واقتصاد المياه في المساحات المغروسة واستغلال واسع للطاقة الشمسية لإنتاج الطاقة الكهربائية وبالتالي يمكننا تصور مستثمرات فلاحية في الصحراء ذاتية التمويل بالطاقة وتستعمل آلات فلاحية ذكية تسهم في تحويل المنتج في عين المكان لحل أشكال اللوجستية وبعد المسافة عن مراكز الاستهلاك كالمدن الكبيرة وموانئ التصدير.
هذه الإستراتيجية المدمجة يمكن لكل القطاعات الإسهام فيها لإنجاح الفلاحة في الجنوب و جعلها أكثر تنافسية على المستويين الوطني والدولي.
7. خـــاتــــــــــــمة
في الأخير، ان تنويع الاقتصاد الوطني المعتمد حاليا على المحروقات لا تتم إلا بتظافر الجهود لكل القطاعات وفق أطر متكاملة و متناسقة و خاصة في مجال البحث العلمي و الابتكار وما الخطوات الأخيرة الجادة التي قامت بها وزارة الفلاحة من تنصيب لوحدات بحث جديدة لدليل على التوجه الجديد الذي ستشهده العشريتين المقبلتين، وكذا توطيد التنسيق مع قطاع التعليم العالي الذي يجب أن يلعب دور محوري في مجال التكوين والبحث العلمي والإرشاد تشكل إستراتيجية جديدة ومتجددة لاستغلال نتائج الأبحاث وتطبيقها في الميدان ليعود بالنفع على القطاع الزراعي والاقتصاد الوطني ككل.

اظهر المزيد

التحرير

موقع الفلاحة نيوز، أول موقع جزائري متخصص في متابعة الشأن الفلاحي في الجزائر، يشرف عليه طاقم صحفي متخصص.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *